فصل: فصل في بيان أحوال التوكل وأعماله وحده ونحو ذلك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر منهاج القاصدين (نسخة منقحة)



.فصل في بيان تفصيل فيما هو من ضروريات الحياة:

والضروريات المهمات سبعة أشياء: المطعم، والملبس، والمسكن، وأثاثه، والمنكح، والمال، والجاه.
فأما الأول: وهو المطعم فاعلم أن همة الزاهد منه ما يدفع به الجوع مما يوافق بدنه من غير قصد الالتذاذ. وفي الحديث: «إن عباد الله ليسوا بالمتنعمين». وقالت عائشة رضي الله عنها لعروة: كان يمر بنا هلال، وهلال، ما يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نار. قال: قلت: يا خالة: فعلى أي شيء كنتم تعيشون؟ قالت: على الأسودين: الماء والتمر. والأحاديث في ذلك كثيرة مشهورة. وقد كان كثير من الزهاد يخشنون المطعم، وكان فيهم من لا يطيق ذلك، فكان الثوري حسن المطعم، وربما حمل في سفرته اللحم المشوي والفالوذج. وفي الجملة فالزاهد يقصد ما يصلح به بدنه، ولا يزيد في التنعم، إلا أن الأبدان تختلف، فمنها ما لا يحمل التخشن. وقد يدخر بعض الناس الزاد الحلال بتقوته، فلا يخرجه ذلك من الزهد، فقد كان السبتي يعمل من السبت إلى السبت ويتقوته. وورث داود الطائي عشرين ديناراً، فأنفقها في عشرين سنة.
الثاني: الملبس، فالزاهد يقتصر فيه على ما يدفع الحر والبرد، ويستر العورة، ولا بأس أن يكون فيه نوع تجمل، لئلا يخرجه التقشف إلى الشهرة. وكان أكثر لباس السلف خشناً، فصار لبس الخشن شهرة. وقد روى عن أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة رضي الله عنها كساء ملبداً، وإزاراً غليظاً، وقالت: قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذين. أخرجاه في الصحيحين.
وعن الحسن قال: خطب عمر رضي الله عنه وهو خليفة، وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة.
الثالث: المسكن، فللزاهد فيه ثلاث درجات.
أعلاها: أن لا يطلب موضعاً خاصاً لنفسه، بل يقنع بزوايا المساجد، كأصحاب الصفة، وأوسطها: أن يطلب موضعاً خاصاً لنفسه، مثل كوخ في سعف، أو خص وما أشبه ذلك. وأدناها: أن يطلب حجرة مبنية. ومتى طلب السعة وعلو السقف، فقد جاوز حد الزهد في المسكن. وقد ت وفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يضع لبنة على لبنة. قال الحسن: كنت إذا دخلت بيوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نلت السقف. وفي الحديث: «إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب». وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: إذا كان البنيان كفافاً، فلا أجر ولا وزر.
وفي الجملة: إن كل ما يراد للضرورة فلا ينبغي أن يجاوز حد الزهد.
الرابع: أثاث البيت، فينبغي للزاهد أن يقتصر فيه على الخزف، ويستعمل الإناء الواحد في مقاصده، فيأكل في القصعة، ويشرب فيها، ومن خرج إلى كثرة العدد في الآلة، أو في نفاسة الجنس، خرج عن الزهد. ولينظر إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ففي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مضطجع على حصير، وإذا الحصير قد أثر على جنبه، فنظرت في خزانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا أنا بقبضة من شعير، نحو الصاع. وفي رواية البخاري: فوالله ما رأيت شيئاً يرد البصر. والحديث مشهور في صحيح مسلم وقال على رضي الله عنه: تزوجت فاطمة وما لي ولها فراش إلا جلد كبش، كنا ننام عليه بالليل، ونعلف عليه الناضح بالنهار، ومالي خادم غيرها، ولقد كانت تعجن، وإن قصتها لتضرب حرف الجفنة من الجهد الذي بها. ودخل رجل على أبي ذر رضي الله عنه، فجعل يقلب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذر‍‍‍‍? ما أرى في بيتك متاعاً، ولا أثاثا. فقال: إن لنا بيتاً نوجه إليه صالح متاعنا. فقال: إنه لا بد لك من متاع ما دمت هاهنا، فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه.
الخامس: المنكح، لا معنى للزهد في أصل النكاح، ولا في كثرته.
قال سهل بن عبد الله: حبب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النساء. وكان على رضي الله عنه من أزهد الصحابة، وكان له أربعة نسوة، وبضع عشرة سرية.
وكان أبو سليمان الداراني يقول: كل ما شغلك عن الله، من أهل، ومال، وولد، فهو مشؤوم.
وكشف الغطاء عن ذلك أن نقول: من غلبت عليه شهوته وخاف على نفسه، تعين عليه النكاح، فأما من لا يخاف، فهل النكاح في حقه أفضل أو التعبد؟ فيه اختلاف بين العلماء. والناس مختلفون فيه منهم من يقصد النكاح لطلب النسل ويمكنه الكسب الحلال للعائلة، فلا يقدح ذلك في دينه، ولا يتشتت قلبه، بل يجمع النكاح همه، ويكف بصره، ويرد فكره، فهذا غاية في الفضيلة، وعليه يحمل حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحال على رضي الله عنه، ومن جرى مجراهما، ولا التفات إلى قول من يرى الزهد بترك الالتذاذ بالنكاح، فإن ذلك يقع ضمناً وتبعاً للمقصود. وقد كان بعض السلف يختار المرأة الدون على الجميلة، وذلك محمول على أن تلك تكون إلى الدين أميل، والنفقة عليها أقل، والاهتمام بأمرها يسير، بخلاف المستحسنة، فإنها تشتت القلب، وتشغله، وتريد زيادة في النفقة، وربما لم يكن. وقد قال مالك بن دينار، يعمد أحدهم فيتزوج ديباجة الحي فتقول: أريد مرطاً فتمرط دينه.
السادس: المال: وهو ضروري في المعيشة، فالزاهد يقتصر منه على ما يدفع به الوقت، وكان في الصالحين من يتشاغل بالتجارة ويقصد بها العفاف. وكان حماد بن سلمة إذا فتح حانوته وكسب حبتين، قام. وكان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت، وخلف أربعمائة دينار، وقال: إنما تركتها لأصون بها عرضي وديني.
السابع: الجاه، ولابد للإنسان من جاه حتى في قلب خادمه، واشتغال الزاهد بالزهد يمهد له الجاه في القلب، فينبغي أن يتحرز من شر ذلك. وفي الجملة فإن الحوائج الضرورية ليست من الدنيا، وكان كثير من السلف يعرض لهم بالمال الحلال، فيقولون: لا نأخذه، نخاف أن يفسد علينا ديننا.

.فصل في بيان علامات الزهد:

وقد تظن أن تارك المال زاهد، وليس كذلك، فإن ترك المال، وإظهار التخشن، سهل على من أحب المدح بالزهد، فكم من راهب قد لازم الدير، وقلل المطعم، وقواه على ذلك حسب المحمدة، كما سبق ذكره في كتاب الرياء.
ولابد من الزهد في فضول الأموال والجاه جميعاً، حتى يكمل الزهد في حظوظ النفس، فأول معرفة الزهد مشكل. وقد قال ابن المبارك: أفضل الزهد إخفاء الزهد، وينبغي أن يعول في هذا على ثلاث علامات:
الأولى: أن لا يفرح بموجود، ولا يحزن بمفقود، كما قال تعالى {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} [الحديد: 23] وهذا علامة الزهد في المال.
الثاني: أن يستوي عنده ذامه ومادحه، وهذه علامة الزهد في الجاه.
الثالث: أن يكون أنسه بالله، والغالب على قلبه حلاوة الطاعة. فأما محبة الدنيا ومحبة الله تعالى، فهما في القلب كالماء والهواء في القدح، إذا دخل الماء خرج الهواء، فلا يجتمعان. قيل لبعضهم: إلام أفضى بهم الزهد؟ قال: إلى الأنس بالله. قال يحيى بن معاذ: الدنيا كالعروس، ومن يطلبها ماشطتها والزاهد يسخم وجهها، وينتف شعرها، ويخرق ثوبها، والعارف مشتغل بالله تعالى عنها. فهذا الإمام أردنا ذكره من حقيقة الزهد وحكامه.
وإذا كان الزهد لا يتم إلا بالتوكل فلنشرع في بيانه إن شاء الله تعالى.

.ثلاثون كتاب التوحيد والتوكل:

.بيان فضيلة التوكل:

قال الله تعالى: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [آل عمران: 122]. وقال: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق: 3].
وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر أنه يدخل الجنة من أمته سبعون ألفاً لا حساب عليهم، ثم قال: «هم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون». أخرجاه في الصحيحين. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وسلم يقول: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً». وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم إني أسألك التوفيق لمحابك من الأعمال، وصدق التوكل عليك، وحسن الظن بك» والتوكل يبتنى على التوحيد، والتوحيد طبقات: منها أن يصدق القلب بالوحدانية المترجم عنها قولك، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، فيصدق بهذا اللفظ، لكن من غير معرفة دليل، فهو اعتقاد العامة.
الثانية: أن يرى الأشياء المختلفة، فيراها صادرة عن الواحد، وهذا مقام المقربين.
الثالثة: أن يرى الإنسان إذا انكشف عن بصيرته أن لا فاعل سوى الله، لم ينظر إلى غيره، بل يكون منه الخوف وله الرجاء وبه الثقة وعليه التوكل، لأنه في الحقيقة هو الفاعل وحده، فسبحانه والكل مسخرون له، فلا يعتمد على المطر في خروج الزرع، ولا على الغيم في نزول المطر، ولا على الريح في سير السفينة، فإن الاعتماد على ذلك جهل بحقائق الأمور. ومن انكشفت له الحقائق، علم أن الريح لا تتحرك. بنفسها، ولا بد لها من محرك. فالتفات العبد في النجاة إلى الريح يضاهى التفات من أخذ لتضرب عنقه، فوقع له الملك بالعفو عنه، فأخذ يشتغل بذكر الحبر والكاغد والقلم الذي كتب به التوقيع، ويقول: لولا هذا القلم ما تخلصت، فيرى نجاته من القلم لا من محرك القلم، وهذا غاية الجهل. ومن علم أن القلم لا حكم له في نفسه، شكر الكاتب دون القلم، وكل المخلوقات في قهر تسخير الخالق أبلغ من القلم في يد الكاتب، فسبحان مسبب الأسباب الفعال لما يريد.

.فصل في بيان أحوال التوكل وأعماله وحده ونحو ذلك:

اعلم أن التوكل مأخوذ من الوكالة، يقال: وكل فلان أمره إلى فلان، أي فوض أمره إليه، واعتمد فيه عليه.
فالتوكل عبارة عن اعتماد القلب على الموكل، ولا يتوكل الإنسان على غيره إلا إذا اعتقد فيه أشياء: الشفقة، والقوة، والهداية. فإذا عرفت هذا، فقس عليه التوكل على الله سبحانه، وإذا ثبت في نفسك أنك لا فاعل سواه واعتقدت مع ذلك أنه تام العلم والقدرة والرحمة، وأنه ليس وراء قدرته قدرة، ولا وراء علمه علم، ولا وراء رحمته رحمة، اتكل قلبك عليه وحده لا محالة، ولم يلتفت إلى غيره بوجه، فإن كنت لا تجد هذه الحالة من نفسك فسببه أحد أمرين: إما ضعف اليقين بأحد هذه الخصال: وإما ضعف القلب باستيلاء الجبن عليه، وانزعاجه بسبب الأوهام الغالبة علية، فإن القلب قد ينزعج ببقاء الوهم وطاعته له من غير نقصان في اليقين، فإنه من كان يتناول عسلاً، فشبه بين يديه بالعذرة، ربما نفر طبعه منه، وتعذر عليه تناوله. ولو كلف العاقل أن يبيت مع الميت في قبر أو فراش أو بيت، نفر طبعه من ذلك، وإن كان متيقنا كونه ميتاً جماداً في الحال، ولا ينفر طبعه عن سائر الجمادات، وذلك جبن في القلب، وهو نوع ضعف قلما يخلو الإنسان منه، وقد يقوى ذلك حتى يصير مرضاً، حتى يخاف أن يبيت في البيت وحده مع غلق الباب وإحكامه.
فإذا لا يتم التوكل إلا بقوة القلب، وقوى اليقين جميعاً، فإذا انكشف لك معنى التوكل، وعلمت الحالة التي تسمى توكلاً، فاعلم أن تلك الحالة لها في القوة والضعف ثلاث درجات:
الأولى: ما ذكرناه، وهو أن يكون حاله في حق الله تعالى الثقة بكفالته وعنايته، كحاله في الثقة بالوكيل.
الدرجة الثانية: وهى أقوى، أن يكون حاله مع الله تعالى كحال الطفل مع أمه فإنه لا يعرف غيرها ولا يفزع إلى سواها، ولا يعتمد إلا إياها، وإن نابه أمر كان أول خاطر يخطر على قلبه، وأول سابق إلى لسانه: يا أماه. فمن كان تألهه إلى الله، ونظره إليه، واعتماده عليه، كلف به كما يكلف الصبي بأمه، فيكون متوكلاً حقاً. والفرق بين هذا وبين الأول، أن هذا متوكل قد فني في توكله عن توكله، إذا لا يلتفت إلى غير المتوكل عليه، ولا مجال في قلبه لغيره.
وأما الأول، فهو متوكل بالتكليف والكسب، وليس فانيا عن توكله، بل له التفات إليه، وذلك شغل صارف عن ملاحظة المتوكل عليه وحده.
الدرجة الثالثة: وهى أعلى منهما، أن يكون بين يدي الله تعالى مثل الميت بين يدي الغاسل، لا يفارقه إلا أنه لا يرى نفسه ميتاً، وهذا يفارق حال الصبي مع أمه فإنه يفزع إلى أمه، ويصيح ويتعلق بذيلها. وهذه الأحوال توجد في الخلق، إلا أن الدوام يبعد، ولاسيما المقام الثالث.

.فصل في بيان أعمال المتوكلين:

قد يظن بعض الناس أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب، والسقوط على الأرض كالخرقة، وكلحم على وضم، وهذا ظن الجهال، فإن ذلك حرام في الشرع. والشرع قد أثنى على المتوكلين، وإنما يظهر تأثير التوكل في حركة العبد وسعيه إلى مقاصده، وسعى العبد إما أن يكون لجلب نفع مفقود كالكسب، أو حفظ موجود كالادخار، وإما لدفع ضرر لم ينزل، كدفع الصائل، أو لإزالة ضرر قد نزل، كالتداوى من المرض، فحركات العبد لا تعدو هذه الفنون الأربعة.
الفن الأول: في جلب المنافع، فنقول: الأسباب التي بها تجلب المنافع على ثلاث درجات:
أحدها: سبب مقطوع به كالأسباب التي ارتبطت بها المسببات بتقدير الله تعالى ومشيئته ارتباطاً مطرداً لا يختلف، مثاله، أن يكون الطعام بين يديك وأنت جائع، فلا تمد يدك إليه وتقول: أنا متوكل، وشرط التوكل ترك السعي، ومد اليد إلى الطعام سعى، وكذلك مضغه وابتلاعه، فهذا جنون محض، وليس من التوكل في شيء، فإنك إذا انتظرت أن يخلق الله فيك شبعاً دون أكل الطعام، أو يخلق في الطعام حركة إليك، أو يسخر ملكاً ليمضغه ويوصله إلى معدتك، فقد جهلت سنة الله. وكذلك لو لم تزرع، وطمعت أن يخلق الله تعالى نباتاً من غير بذر، أو تلد الزوجة من غير وقاع، فكل ذلك جنون، وليس التوكل في هذا المقام ترك العمل، بل التوكل فيه بالعلم والحال. أما العلم: فهو أن تعلم أن الله تعالى خلق الطعام، واليد، والأسباب، وقوة الحركة، وأنه الذي يطعمك ويسقيك. وأما الحال، فهو أن يكون قلبك واعتمادك على فضل الله تعالى، لا على اليد والطعام، لأنه ربما جفت يدك، وبطلت حركتك، وربما سلط الله عليك من يغلبك على الطعام، فمد اليد إلى الطعام لا ينافى التوكل.
الدرجة الثانية: الأسباب التي ليست متيقنة، لكن الغالب أن المسببات لا تحصل دونها. مثاله من يفارق الأمصار، ويخرج مسافرا إلى البوادي التي لا يطرقها الناس إلا نادراً، ولا يستصحب معه شيئاً من الزاد، فهذا كالمجرب على الله تعالى، وفعله منهي عنه، وحمله للزاد مأمور به، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما سافر تزود واستأجر دليلاً إلى المدينة.
الدرجة الثالثة: ملابسة الأسباب التي يتوهم إفضاؤها إلى المسببات من غير ثقة ظاهرة، كالذي يستقصي في التدبيرات الدقيقة في تفصيل الاكتساب ووجوهه، فمتى كان قصده صحيحاً وفعله لا يخرج عن الشرع، لم يخرج عن التوكل، لكنه ربما دخل في أهل الحرص إذا طلب فضول العيش. وترك التكسب ليس من التوكل في شيء، إنما هو من فعل البطالين الذين آثروا الراحة، وتعللوا بالتوكل. قال عمر رضي الله عنه: المتوكل الذي يلقى حبه في الأرض ويتوكل على الله.
الفن الثاني:
في التعرض للأسباب بالادخار، ومن وجد قوتاً حلالاً يشغله كسب مثله عن جمع همه، فادخاره إياه لا يخرجه عن التوكل، خصوصاً إذا كان له عائلة. وفي الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبيع نخل بني النضير، ويحبس لأهله قوت سنتهم. فإن قيل: فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلالاً أن يدخر، فالجواب: أن الفقراء كانوا عنده كالضيف، فما كان ينبغي أن يدخر فيجوعون، بل الجواب: أن حال بلال وأمثاله من أهل الصفة كان مقتضاها عدم الادخار، فإن خالفوا كان التوبيخ على الكذب في دعوى الحال لا على الادخار الحلال.
الفن الثالث: مباشرة الأسباب الدافعة للضرر. ليس من شرط التوكل ترك الأسباب الدافعة للضرر، فلا يجوز النوم في الأرض المسبعة أو مجرى السيل، أو تحت الجدار الخراب، فكل ذلك منهي عنه. وكذلك لا ينقض التوكل لبس الدرع، وإغلاق الباب، وشد البعير بالعقال. وقال الله تعالى {وليأخذوا أسلحتهم} [النساء: 102]. وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: «اعقلها وتوكل». ويتوكل في ذلك كله على المسبب لا على السبب، ويكون راضيا بكل ما يقضى الله عليه ومتى عرض له إذا سرق متاعه أنه لو احترز لم يسرق، أو أخذ يشكو ما جرى عليه، فقد بان بعده عن التوكل. وليعلم أن القدر له كالطبيب، فإن قدم إليه الطعام فرح، وقال: لولا أنه علم أن الغذاء ينفعني ما قدمه، وإن منعه فرح، وقال: لولا أنه علم أن الغذاء يؤذيني لما منعني. واعلم أن كل من لا يعتقد في لطف الله تعالى ما يعتقده المريض في الطبيب الحاذق الشفيق، لم يصح توكله، فإن سرق متاعه رضي بالقضاء، وأحل الآخذ، شفقة على المسلمين. فقد شكا بعض الناس إلى بعض العلماء أنه قطع عليه الطريق، وأخذ ماله،
فقال: إن لم يكن غمك كيف صار في المسلمين من يفعل هذا أكثر من غمك بمالك، فما نصحت المسلمين.
الفن الرابع: السعي في إزالة الضرر، كمداواة المريض ونحو ذلك.
اعلم أن الأسباب المزيلة للضرر تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
إلى مقطوع به، كالماء المزيل لضرر العطش، والخبز المزيل لضرر الجوع، فهذا القسم ليس تركه من التوكل في شيء.
القسم الثاني: أن يكون مظنوناً، كالفصد، والحجامة، وشرب المسهل، ونحو ذلك. فهذا لا يناقض التوكل، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تداوى وأمر بالتداوي. وقد تداوى خلق كثير من المسلمين، وامتنع عنه أقوام توكلاً، كما روى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قيل له: ألا ندعو لك طبيباً؟ فقال: رآني الطبيب. قيل: فما قال لك؟ قال: إني فعال لما أريد. قال المصنف رحمه الله: والذي ننصره أن التداوي أفضل، وتحمل حال أبي بكر رضي الله عنه أنه قد تداوى ثم أمسك بعد انتفاعه بالدواء، أو يكون قد علم قرب أجله بأمارات. واعلم أن الأدوية أسباب مسخرة بإذن الله تعالى.
القسم الثالث: أن يكون السبب موهوماً، كالكي، فيخرج عن التوكل، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصف المتوكلين بأنه لا يكتوون. وقد حمل بعض العلماء الكي المذكور في قوله: «لا يكتوون» على ما كانوا يفعلونه في الجاهلية، فإنهم كانوا يكتوون ويسترقون في زمن العافية لئلا يمرضوا، فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرقى الرقية بعد نزول المرض، وقد كوى أسعد بن زرارة رضي الله عنه. وأما شكوى المريض، فهي مخرجة عن التوكل، وقد كانوا يكرهون أنين المريض، لأنه يترجم عن الشكوى، فكان الفضيل يقول: أشتهي مرضا بلا عواد. وقال رجل للإمام أحمد: كيف أنت؟ قال: بخير. قال حممت البارحة؟ قال: إذا قلت لك: أنا بخير، فلا تخرجني إلى ما أكره. فأما إذا وصف المريض للطبيب ما يجده، فإنه لا يضره. وقد كان بعض السلف يفعل ذلك، ويقول: إنما أصف قدرة الله في، ويتصور أن يصف ذلك لتلميذ يقويه على الضراء ويرى ذلك نعمة، فيصف ذلك كما يصف النعمة شكراً لها، ولا يكون ذلك شكوى. وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إني أوعك كما يوعك رجلان منكم».

.واحد وثلاثون كتاب المحبة والشوق والأنس والرضى:

اعلم أن المحبة لله تعالى هي الغاية القصوى من المقامات، فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها، وتابع من توابعها، كالشوق، والأنس، والرضى، ولا قبل المحبة، مقام إلا وهو من مقدماتها، كالتوبة، والصبر، والزهد وغيرها. واعلم أن الأمة مجمعة على أن الحب لله ولرسوله فرض، ومن شواهد المحبة قوله تعالى: {يحبهم ويحبونه} [المائدة: 54] وقوله تعالى: {والذين آمنوا أشد حبا لله} [البقرة: 165] وهذا دليل على إثبات الحب لله، وإثبات التفاوت فيه. وفي الحديث الصحيح: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الساعة فقال: «ما أعددت لها؟» قال: يا رسول الله: ما أعددت لها من كثرة صلاة ولا صيام، إلا أنى أحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «المرء مع من أحب، وأنت مع من أحببت»، فما فرح المسلمون بعد الإسلام فرحهم بها. وروى أن ملك الموت جاء إلى الخليل عليه السلام ليقبض روحه، فقال له: هل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فأوحى الله إليه: هل رأيت حبيبا يكره لقاء حبيبه؟ فقال: يا ملك الموت اقبض. وقال الحسن البصري رحمه الله: من عرف ربه أحبه، ومن أحب غير الله تعالى، لا من حيث نسبته إلى الله، فذلك لجهله وقصوره عن معرفته، فأما حب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فذلك لا يكون إلا عن حب الله تعالى، وكذلك حب العلماء والأتقياء، لأن محبوب المحبوب محبوب، بل إن ما يفعل المحبوب محبوب، ورسول الله المحبوب محبوب، وكل ذلك يرجع إلى حب الأصل، ولا محبوب في الحقيقة عند ذوى البصائر إلا الله تعالى، ولا مستحق للمحبة سواه.
وإيضاح ذلك يرجع إلى أسباب:
أحدها: أن الإنسان يحب نفسه، وبقاءه، وكماله، ودوام وجوده، ويكره ضد ذلك من الهلاك والعدم والنقصان، وهذا جبلة كل حي لا يتصور أن ينفك عنها. وهذا يقتضي غاية المحبة لله عز وجل، فإن الإنسان إذا عرف ربه، عرف قطعاً أن وجوده ودوامه وكماله من الله، وأنه المخترع له، الموجد لذاته بعد أن كان عدماً محضاً لولا فضل الله عليه بإيجاده، وهو ناقص بعد الوجود لولا فضل الله عليه بالتكميل ولذلك قال الحسن البصري: من عرف ربه أحبه، ومن عرف الدنيا، زهد فيها.
وكيف يتصور أن يحب الإنسان نفسه، ولا يحب ربه الذي به قوام نفسه.
السبب الثاني: أن الإنسان بالطبع يحب من أحسن إليه ولاطفه وواسه، وانتدب لنصرته وقمع أعدائه، وأعانه على جميع أغراضه، فإنه محبوب عنده لا محالة.
وإذا عرف الإنسان حق المعرفة علم أن المحسن إليه هو الله سبحانه وتعالى فقط. وأنواع إحسانه لا يحيط به حصر، كما قال تعالى {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [إبراهيم: 34 والنحل: 18]
وقد أشرنا إلى طرف من ذلك في كتاب الشكر، ولكنا نبين أن الإحسان من الناس غير متصور إلا بالمجاز، وأن، المحسن في الحقيقة هو الله تعالى.
بيان ذلك أنا نفرض أن شخصاً أنعم عليك بجميع خزائنه وما يملك، ومكنك فيها لتتصرف كيف شئت، فإنك تظن أن هذا الإحسان منه، وهو غلط، فإنه إنما تم إحسانه بماله، وبقدرته على المال، وبداعيته الباعثة له على صرف المال. فمن الذي أنعم بخلقه وخلق ماله وخلق إرادته وداعيته؟ ومن الذي حببك إليه، وصرف وجهه إليك وألقى في نفسه أن صلاح دينه ودنياه في الإحسان إليك، ولولا ذلك ما أعطاك، فكأنه صار مقهوراً في التسليم لا يستطيع مخالفته. فالمحسن هو الذي اضطره وسخره لك، فهو جار مجرى خازن أمير أمره أن يسلم إلى الإنسان خلعة خلعها عليه الأمير، فإن الخازن لا يرى محسناً بتسليم خلعة الأمير، لأنه مضطر إلى طاعته، ولو خلاه الأمير ونفسه لما سلم ذلك. وكذلك كل محسن لو خلاه الله ونفسه، لم يبذل حبه من ماله حتى يسلط الله عليه الدواعي، ويلقى في نفسه أن حظه في بذل ذلك فيبذله. فينبغي للعارف أن لا يحب إلا الله، إذا الإحسان من غيره محال.
السبب الثالث: أن المحسن في نفسه وإن لم يصل إليك إحسانه محبوب في الطباع، فإنه إذا بلغك عن ملك من الملوك أنه عالم عادل عابد رفيق بالناس، متلطف بهم وهو في قطر بعيد، فإنك تحبه، وتجد في نفسك ميلاً كثيراً إليه. فهذا حب المحسن من حيث إنه محسن، فضلا عن أن يكون محسناً إليك. وهذا ما يقتضي حب الله تعالى، بل يقتضي أن لا يحب غيره، إلا بحيث أن يتعلق منه بسبب، فإنه سبحانه هو المحسن إلى الكل كافة، بإيجادهم وتكميلهم بالأعضاء والأسباب التي هي من ضروراتهم وترفيههم، إلى غير ذلك من النعم التي لا تحصى، كما قال تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [إبراهيم: 34 والنحل: 18]. فكيف يكون غيره محسناً؟ وذلك المحسن حسنة من حسنات قدرته، فمن عرف هذا لم يحب إلا الله تعالى.
وكذلك نقول: كل من كان متصفاً بالعلم، أو بالقدرة أو كان متنزهاً عن الصفات الرذيلة، فإن ذلك يوجب له المحبة. فصفات الصديقين الذين تحبهم القلوب طبعاً، ترجع إلى علمهم بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله وشرائع أنبيائه، إلى قدرتهم على إصلاح نفوسهم والى تنزيههم عن الرذائل والخبائث ولمثل هذه الصفات تحب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإذا نسبت هذه الصفات إلى صفات الله تعالى، وجدتها مضمحلة بالنسبة إلى صفاته سبحانه وتعالى.
أما العلم، فإن علم الأولين والآخرين من علم الله تعالى الذي يحيط بالكل، حتى لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. وقد خاطب الخلق كلهم فقال: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء: 85].
ولو أجتمع أهل السموات والأرض، على أن يحيطوا بعلمه وحكمته في تفصيل خلق نملة، لم يطلعوا على عشر عشر ذلك، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، والقدر اليسير الذي علمه الخلق كلهم، بتعليمه، علموه. ففضل علم الله سبحانه على علم الخلائق كلهم خارج عن النهاية، إذ معلوماته لا نهاية لها.
وأما صفة القدرة، فهي أيضاً صفة كمال، فإذا نسبت قدرة الخلق كلهم إلى قدرة الله تعالى، وجدت أعظم الأشخاص قوة، وأوسعهم ملكاً، وأقواهم بطشاً، وأجمعهم للقدرة على سياسة نفسه وسياسة غيره، غاية قدرته أن يقدر على بعض صفات نفسه، وعلى بعض امتحان الإنس في بعض الأمور، وهو مع ذلك لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا يملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً، بل لا يقدر على حفظ عينه من العمى، ولا على حفظ لسانه من الخرس، ولا آذانه من الصمم، ولا بدنه من المرض، ولا يقدر على ذرة من ذرات المخلوقات. وما هو قادر عليه من نفسه وغيره، فليست قدرته من نفسه، بل الله خالقه وخالق قدرته وخالق أسبابه والممكن له من ذلك. ولو سلط بعوضة على أعظم ملك وأقوى شخص لأهلكته، فليس للعبد قدرة إلا بتمكين مولاه.
قال الله تعالى في حق أعظم ملوك الأرض ذي القرنين: {إنا مكنا له في الأرض} [الكهف: 84] فلم يكن جميع ملكه وسلطانه إلا بتمكين الله تعالى، فنواصي الخلق جميعهم في قبضته وقدرته، إن أهلكهم لم ينقص من ملكه وسلطانه ذرة، وإن خلق أمثالهم ألف مرة لم يعبأ بخلقه، فلا قادر إلا هو، فله الكمال والعظمة والبهاء والكبرياء والقهر والاستيلاء. فإن تصور أن تحب قادراً لكمال قدرته وعظمته وعلمه، فلا يستحق ذلك سواه، ولا يتصور كمال التقديس والتنزيه إلا له سبحانه، فهو الواحد الذي لا ند له، الفرد الذي لا ضد له، الصمد الذي لا منازع له، الغنى الذي لا حاجة له، القادر الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه، العالم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
وكمال معرفة العارفين الاعتراف بالعجز عن معرفته، وهو المستحق لكمال المحبة استحقاقاً لا يساهم فيه أصلاً.